الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
الجزء الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالْمَقَاصِدُ الَّتِي يُنْظَرُ فِيهَا قِسْمَان: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ الشَّارِعِ. وَالْآخَرُ يَرْجِعُ إِلَى قَصْدِ الْمُكَلَّفِ. فَالْأَوَّلُ يُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاءً، وَمِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ فِي وَضْعِهَا لِلْأَفْهَامِ، وَمِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ فِي وَضْعِهَا لِلتَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا، وَمِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ فِي دُخُولِ الْمُكَلَّفِ تَحْتَ حُكْمِهَا; فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ. وَلْنُقَدِّمْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَطْلُوبِ. مُقَدِّمَةٌ كَلَامِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِع: وَهِيَ أَنَّ وَضْعَ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا هُوَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ مَعًا، وَهَذِهِ دَعْوَى لَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَيْهَا صِحَّةً أَوْ فَسَادًا، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَزَعَمَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ لَيْسَتْ مُعَلَّلَةً بِعِلَّةٍ أَلْبَتَّةَ، كَمَا أَنَّ أَفْعَالَهُ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَهُ تَعَالَى مُعَلَّلَةً بِرِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَمَّا اضْطُرَّ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَى إِثْبَاتِ الْعِلَلِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ; أُثْبِتَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْعِلَلَ بِمَعْنَى الْعَلَامَاتِ الْمُعَرِّفَةِ لِلْأَحْكَامِ خَاصَّةً، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَالْمُعْتَمَدُ إِنَّمَا هُوَ أَنَّا اسْتَقْرَيْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ اسْتِقْرَاءً لَا يُنَازِعُ فِيهِ الرَّازِيُّ وَلَا غَيْرُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي بَعْثِهِ الرُّسُلَ وَهُوَ الْأَصْلُ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النِّسَاء: 165]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاء: 107]. وَقَالَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هُودٍ: 7]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذَّارِيَات: 56]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْك: 2]. وَأَمَّا التَّعَالِيلُ لِتَفَاصِيلِ الْأَحْكَامِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ; فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى كَقَوْلِهِ بَعْدَ آيَةِ الْوُضُوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [الْمَائِدَة: 6]. وَقَالَ فِي الصِّيَام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 183]. وَفِي الصَّلَاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [الْعَنْكَبُوت: 45]. وَقَالَ فِي الْقِبْلَة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [الْبَقَرَة: 150]. وَفِي الْجِهَاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الْحَجّ: 39]. وَفِي الْقِصَاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَة: 179]. وَفِي التَّقْرِيرِ عَلَى التَّوْحِيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَاف: 172]، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ. وَإِذَا دَلَّ الِاسْتِقْرَاءُ عَلَى هَذَا وَكَانَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ثَبَتَ الْقِيَاسُ وَالِاجْتِهَادُ; فَلْنَجْرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ- وَيَبْقَى الْبَحْثُ فِي كَوْنِ ذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ مَوْكُولًا إِلَى عِلْمِهِ-؛ فَنَقُولُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ:
وَفِيهِ مَسَائِلُ: تَكَالِيفُ الشَّرِيعَةِ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِهَا فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ لَا تَعْدُو ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ حَاجِيَّةً. وَالثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ تَحْسِينِيَّةً. فَأَمَّا الضَّرُورِيَّةُ; فَمَعْنَاهَا أَنَّهَا لَا بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ بَلْ عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الْأُخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ. وَالْحِفْظُ لَهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْن: أَحَدُهُمَا: مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ. وَالثَّانِي: مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ أَوِ الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ. فَأُصُولُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ; كَالْإِيمَانِ، وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْعَادَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ أَيْضًا; كَتَنَاوُلِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَسْكُونَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْمُعَامَلَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّسْلِ وَالْمَالِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَإِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ أَيْضًا، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعَادَاتِ. وَالْجِنَايَاتُ- وَيَجْمَعُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ- تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْجَمِيعِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ. وَالْعِبَادَاتُ وَالْعَادَاتُ قَدْ مُثِّلَتْ، وَالْمُعَامَلَاتُ مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ; كَانْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ أَوِ الْمَنَافِعِ أَوِ الْأَبْضَاعِ، وَالْجِنَايَاتُ مَا كَانَ عَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالْإِبْطَالِ، فَشُرِعَ فِيهَا مَا يَدْرَأُ ذَلِكَ الْإِبْطَالَ، وَيَتَلَافَى تِلْكَ الْمَصَالِحَ; كَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَّاتِ لِلنَّفْسِ، وَالْحَدِّ لِلْعَقْلِ، وَتَضْمِينِ قِيَمِ الْأَمْوَالِ لِلنَّسْلِ، وَالْقَطْعِ وَالتَّضْمِينِ لِلْمَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمَجْمُوعُ الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ، وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ، وَالْعَقْلِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا مُرَاعَاةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ. وَأَمَّا الْحَاجِيَّاتُ; فَمَعْنَاهَا أَنَّهَا مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَلَ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ- عَلَى الْجُمْلَةِ- الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْعَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْجِنَايَات: فَفِي الْعِبَادَاتِ كَالرُّخَصِ الْمُخَفَّفَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُحُوقِ الْمَشَقَّةِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَفِي الْعَادَاتِ كَإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ، مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَمَلْبَسًا وَمَسْكَنًا وَمَرْكَبًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَفِي الْمُعَامَلَاتِ; كَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ، وَإِلْقَاءِ التَّوَابِعِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَتْبُوعَاتِ، كَثَمَرَةِ الشَّجَرِ، وَمَالِ الْعَبْدِ. وَفِي الْجِنَايَاتِ; كَالْحُكْمِ بِاللَّوْثِ، وَالتَّدْمِيَةِ، وَالْقَسَامَةِ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا التَّحْسِينَاتُ; فَمَعْنَاهَا الْأَخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الْأَحْوَالِ الْمُدَنِّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُولُ الرَّاجِحَاتُ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَهِيَ جَارِيَةٌ فِيمَا جَرَتْ فِيهِ الْأُولَيَان: فَفِي الْعِبَادَاتِ; كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ- وَبِالْجُمْلَةِ الطَّهَارَاتُ كُلُّهَا، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَفِي الْعَادَاتِ; كَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمُجَانَبَةِ الْمَآكِلِ النَّجِسَاتِ وَالْمَشَارِبِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ، وَالْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ. وَفِي الْمُعَامَلَاتِ; كَالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ، وَفَضْلِ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ، وَسَلْبِ الْعَبْدِ مَنْصِبَ الشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَسَلْبِ الْمَرْأَةِ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْكَاحَ نَفْسِهَا، وَطَلَبِ الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمَا أَشْبَهَهَا. وَفِي الْجِنَايَاتِ; كَمَنْعِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، أَوْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ فِي الْجِهَادِ. وَقَلِيلُ الْأَمْثِلَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا سِوَاهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا فَهَذِهِ الْأُمُورُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَحَاسِنَ زَائِدَةٍ عَلَى أَصْلِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِقْدَانُهَا بِمُخِلٍّ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ، وَإِنَّمَا جَرَتْ مَجْرَى التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ.
كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا مَا هُوَ كَالتَّتِمَّةِ وَالتَّكْمِلَةِ، مِمَّا لَوْ فَرَضْنَا فَقْدَهُ لَمْ يُخِلَّ بِحِكْمَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ. فَأَمَّا الْأُولَى; فَنَحْوُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ; فَإِنَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ وَلَا تَظْهَرُ فِيهِ شِدَّةُ حَاجَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَكْمِيلِيٌّ، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمِثْلِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَقِرَاضُ الْمِثْلِ، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَشُرْبُ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ، وَمَنْعُ الرِّبَا، وَالْوَرَعُ اللَّاحِقُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الدِّينِ، كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالْقِيَامُ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ; فَكَاعْتِبَارِ الْكُفْءِ، وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِثْلُ الْحَاجَةِ إِلَى أَصْلِ النِّكَاحِ فِي الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْبَيْعَ مِنْ بَابِ الْحَاجِيَّاتِ; فَالْإِشْهَادُ وَالرَّهْنُ وَالْحَمِيلُ مِنْ بَابِ التَّكْمِلَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَجَمْعُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ; فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَالْمُكَمِّلِ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُشْرَعْ لَمْ يُخِلَّ بِأَصْلِ التَّوْسِعَةِ وَالتَّخْفِيفِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ; فَكَآدَابِ الْأَحْدَاثِ، وَمَنْدُوبَاتِ الطَّهَارَاتِ، وَتَرْكِ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ الْمَدْخُولِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَكَاسِبِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي الضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالْعِتْقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَاجِيَّاتِ كَالتَّتِمَّةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ التَّحْسِينَاتُ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْحَاجِيَّاتِ; فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ أَصْلُ الْمَصَالِحِ حَسَبَ مَا يَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
كُلُّ تَكْمِلَةٍ فَلَهَا- مِنْ حَيْثُ هِيَ تَكْمِلَةٌ- شَرْطٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَعُودَ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ تَكْمِلَةٍ يُفْضِي اعْتِبَارُهَا إِلَى رَفْضِ أَصْلِهَا; فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عِنْدَ ذَلِكَ; لِوَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِبْطَالِ الْأَصْلِ إِبْطَالَ التَّكْمِلَةِ; لِأَنَّ التَّكْمِلَةَ مَعَ مَا كَمَّلَتْهُ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ الْمَوْصُوفِ; لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ارْتِفَاعُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَاعْتِبَارُ هَذِهِ التَّكْمِلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُؤَدٍّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ، لَمْ تُعْتَبَرِ التَّكْمِلَةُ وَاعْتُبِرَ الْأَصْلُ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُلُ مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَكَانَ حُصُولُ الْأَصْلِيَّةِ أَوْلَى لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حِفْظَ الْمُهْجَةِ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ، وَحِفْظُ الْمُرُوءَاتِ مُسْتَحْسَنٌ، فَحَرُمَتِ النَّجَاسَاتُ حِفْظًا لِلْمُرُوءَاتِ وَإِجْرَاءً لِأَهْلِهَا عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ فَإِنْ دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ بِتَنَاوُلِ النَّجِسِ; كَانَ تَنَاوُلُهُ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْبَيْعِ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مُكَمِّلٌ، فَلَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ الْغَرَرِ جُمْلَةً لَانْحَسَمَ بَابُ الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ ضَرُورِيَّةٌ أَوْ حَاجِيَّةٌ، وَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلَاتِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ; مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ إِلَّا فِي السَّلَمِ، وَذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ مُمْتَنِعٌ فَاشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَنَافِعِ فِيهَا وَحُضُورِهَا يَسُدُّ بَابَ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَالْإِجَارَةُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا; فَجَازَتْ وَإِنْ لَمْ يُحْضَرِ الْعِوَضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ وَمِثْلُهُ جَارٍ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهِمَا. وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ بِجَوَازِهِ، قَالَ مَالِكٌ: لَوْ تُرِكَ ذَلِكَ لَكَانَ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالْجِهَادُ ضَرُورِيٌّ، وَالْوَالِي فِيهِ ضَرُورِيٌّ، وَالْعَدَالَةُ فِيهِ مُكَمِّلَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُكَمِّلُ إِذَا عَادَ لِلْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْوُلَاةِ السُّوءِ; فَإِنَّ فِي تَرْكِ ذَلِكَ تَرْكَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ الْمَطْلُوبَةِ، وَالْعَدَالَةُ مُكَمِّلَةٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِالتَّكْمِلَةِ. وَمِنْهُ إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فِي الصَّلَاةِ مُكَمِّلٌ لِضَرُورَاتِهَا، فَإِذَا أَدَّى طَلَبُهُ إِلَى أَنْ لَا تُصَلَّى- كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْقَادِرِ- سَقَطَ الْمُكَمِّلُ، أَوْ كَانَ فِي إِتْمَامِهَا حَرَجٌ ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَمَّنْ لَمْ يُكْمِلْ، وَصَلَّى عَلَى حَسَبِ مَا أَوْسَعَتْهُ الرُّخْصَةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ طُلِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ; لَتَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي الشَّرِيعَةِ تَفُوقُ الْحَصْرَ، كُلُّهَا جَارٍ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ. وَانْظُرْ فِيمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْكِتَابِ الْمُسْتَظْهِرِيِّ فِي الْإِمَامِ الَّذِي لَمْ يَسْتَجْمِعْ شُرُوطَ الْإِمَامَةِ، وَاحْمِلْ عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ.
الْمَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ لِلْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّةِ، فَلَوْ فُرِضَ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ لَاخْتَلَّا بِاخْتِلَالِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِهِمَا أَوِ اخْتِلَالِ أَحَدِهِمَا اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ، نَعَمْ، قَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الْحَاجِيِّ بِوَجْهٍ مَا، وَقَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا، فَلِذَلِكَ إِذَا حُوفِظَ عَلَى الضَّرُورِيِّ، فَيَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ، وَإِذَا حُوفِظَ عَلَى الْحَاجِيِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَى التَّحْسِينِيِّ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّحْسِينِيَّ يَخْدُمُ الْحَاجِيَّ، وَأَنَّ الْحَاجِيَّ يَخْدُمُ الضَّرُورِيَّ; فَإِنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْمَطْلُوبُ. فَهَذِهِ مَطَالِبُ خَمْسَةٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا: أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجِيِّ وَالتَّكْمِيلِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَالَ الضَّرُورِيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ بِإِطْلَاقٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْبَاقِيَيْنِ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ أَوِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ وَعَلَى التَّحْسِينِيِّ لِلضَّرُورِيِّ. بَيَانُ الْأَوَّل: أَنَّ مَصَالِحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا اعْتُبِرَ قِيَامُ هَذَا الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا، حَتَّى إِذَا انْخَرَمَتْ لَمْ يَبْقَ لِلدُّنْيَا وُجُودٌ- أَعْنِي: مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِينَ وَالتَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْأُخْرَوِيَّةُ لَا قِيَامَ لَهَا إِلَّا بِذَلِكَ. فَلَوْ عُدِمَ الدِّينُ عُدِمَ تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ الْمُرْتَجَى وَلَوْ عُدِمَ الْمُكَلَّفُ لَعُدِمَ مَنْ يَتَدَيَّنُ، وَلَوْ عُدِمَ الْعَقْلُ لَارْتَفَعَ التَّدَيُّنُ، وَلَوْ عُدِمَ النَّسْلُ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ بَقَاءٌ، وَلَوْ عُدِمَ الْمَالُ لَمْ يَبْقَ عَيْشٌ- وَأَعْنِي بِالْمَالِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ وَاسْتَبَدَّ بِهِ الْمَالِكُ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَاللِّبَاسُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمُتَمَوِّلَاتِ، فَلَوِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَقَاءٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ مَنْ عَرَفَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا زَادٌ لِلْآخِرَةِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَالْأُمُورُ الْحَاجِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ حَائِمَةٌ حَوْلَ هَذَا الْحِمَى، إِذْ هِيَ تَتَرَدَّدُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ، تُكْمِلُهَا بِحَيْثُ تَرْتَفِعُ فِي الْقِيَامِ بِهَا وَاكْتِسَابِهَا الْمَشَقَّاتُ، وَتَمِيلُ بِهِمْ فِيهَا إِلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ; حَتَّى تَكُونَ جَارِيَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَمِيلُ إِلَى إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ. وَذَلِكَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِي الْبُيُوعِ، وَكَمَا نَقُولُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الصَّلَاةُ قَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا، وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ إِلَى زَمَانِ صِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّمْثِيلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِذَا فُهِمَ هَذَا، لَمْ يَرْتَبِ الْعَاقِلُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْحَاجِيَّةَ فُرُوعٌ دَائِرَةٌ حَوْلَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي التَّحْسِينِيَّةِ; لِأَنَّهَا تُكْمِلُ مَا هُوَ حَاجِيٌّ أَوْ ضَرُورِيٌّ، فَإِذَا كَمَّلَتْ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، فَظَاهِرٌ، وَإِذَا كَمَّلَتْ مَا هُوَ حَاجِيٌّ، فَالْحَاجِيُّ مُكَمِّلٌ لِلضَّرُورِيِّ، وَالْمُكَمِّلُ لِلْمُكَمِّلِ مُكَمِّلٌ; فَالتَّحْسِينِيَّةُ إِذًا كَالْفَرْعِ لِلْأَصْلِ الضَّرُورِيِّ وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. بَيَانُ الثَّانِي: يَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ أَوْ كَفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهِ; لَزِمَ مِنِ اخْتِلَالِهِ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ; لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا اخْتَلَّ اخْتَلَّ الْفَرْعُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. فَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَ أَصْلِ الْبَيْعِ مِنَ الشَّرِيعَةِ; لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَفَعَ أَصْلُ الْقِصَاصِ، لَمْ يُمْكِنِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْقِصَاصِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ الْوَصْفُ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ، وَكَمَا إِذَا سَقَطَ عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوِ الْحَائِضِ أَصْلُ الصَّلَاةِ; لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، أَوِ التَّكْبِيرِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ الْحَدَثِيَّةِ أَوِ الْخَبَثِيَّةِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ثَمَّ حُكْمًا هُوَ ثَابِتٌ لِأَمْرٍ فَارْتَفَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ مَقْصُودًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ كَانَ هَذَا فَرْضَ مُحَالٍ، وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ مَثَلًا أَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعَ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهَا وَمُكَمِّلٌ; مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ; لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ هُوَ الْمُرْتَفِعُ، وَأَوْصَافُهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ إِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَصْدًا، أَوِ الصِّيَامُ كَذَلِكَ، كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الصِّيَامِ فِي الْعِيدِ، فَكُلُّ مَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ مُكَمِّلَاتِهَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ أَصْلِ النَّهْيِ; مِنْ حَيْثُ نُهِيَ عَنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ فِي الْوُقُوعِ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، وَلَا تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا إِلَّا بِمَجْمُوعِ أَفْعَالِهَا وَأَقْوَالِهَا; فَانْدَرَجَتِ الْمُكَمِّلَاتُ تَحْتَ النَّهْيِ بِانْدِرَاجِ الْكُلِّ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقَائِقَ فِي أَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهَا مُطْلَقًا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ; لَمْ يَلْزَمِ ارْتِفَاعُهَا بِارْتِفَاعِ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَصْلِ اخْتِلَالُ الْفَرْعِ، كَمَا أَصَّلْتُ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا مَعَ مَقَاصِدِهَا هَذِهِ النِّسْبَةُ; كَالطَّهَارَةِ مَعَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْوَسَائِلُ شَرْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمَقَاصِدِ، كَجَرِّ الْمُوسَى فِي الْحَجِّ عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ، فَالْأَشْيَاءُ إِذَا كَانَ لَهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا وُضِعَتْ مُكَمِّلَةً أَنْ تَرْتَفِعَ بِارْتِفَاعِ الْمُكَمَّلِ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالتَّكْبِيرَ وَغَيْرَهُمَا لَهَا اعْتِبَارَان: * اعْتِبَارٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ. * وَاعْتِبَارٌ مِنْ حَيْثُ أَنْفُسِهَا. فَأَمَّا اعْتِبَارُهَا مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي; فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اعْتِبَارِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَجْزَاءٌ مُكَمِّلَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَبِذَلِكَ الْوَجْهِ صَارَتْ بِالْوَضْعِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بَقَاءُ الصِّفَةِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ، إِذِ الْوَصْفُ مَعْنًى لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ عَقْلًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي الِاعْتِبَارِ مِثْلَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْمُكَمِّلِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمُكَمَّلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَأَشْبَاهُهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَسَائِلِ; فَأَمْرٌ آخَرُ، وَلَكِنْ إِنْ فَرَضْنَا كَوْنَ الْوَسِيلَةِ كَالْوَصْفِ لِلْمَقْصُودِ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِأَجْلِهِ، فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هَذِهِ- أَنْ تَبْقَى الْوَسِيلَةُ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَقْصِدِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِبَقَائِهَا، فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنِ انْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ، فَلَا امْتِنَاعَ فِي هَذَا وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ. وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِإِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِمْرَارِ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَالْقَاعِدَةُ صَحِيحَةٌ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا نَقْضَ فِيهِ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْبِهِ وَأَحْكَمُ. بَيَانُ الثَّالِث: أَنَّ الضَّرُورِيَّ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمَوْصُوفِ مَعَ أَوْصَافِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ; فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّهُ يُضَاهِيهِ. مِثَالُ ذَلِكَ: الصَّلَاةُ إِذَا بَطَلَ مِنْهَا الذِّكْرُ أَوِ الْقِرَاءَةُ أَوِ التَّكْبِيرُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَوْصَافِهَا لِأَمْرٍ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا ارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الْبَيْعِ; كَمَا فِي الْخَشَبِ، وَالثَّوْبِ الْمَحْشُوِّ، وَالْجَوْزِ، وَالْقَسْطَلِ، وَالْأُصُولِ الْمُغَيَّبَةِ فِي الْأَرْضِ; كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ، وَأُسُسِ الْحِيطَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَكَذَا لَوِ ارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْقِصَاصِ; لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْقِصَاصِ، وَأَقْرَبُ الْحَقَائِقِ إِلَيْهِ الصِّفَةُ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَكَمَا أَنَّ الصِّفَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهَا بُطْلَانُ الْمَوْصُوفِ بِهَا، كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً، بِحَيْثُ صَارَتْ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الْمَوْصُوفِ، فَهِيَ إِذْ ذَاكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْمَاهِيَّةِ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَيَنْخَرِمُ الْأَصْلُ بِانْخِرَامِ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِمَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْخَرِمُ مِنْ أَصْلِهَا بِانْخِرَامِ شَيْءٍ مِنْهَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، هَذَا لَا نَظَرَ فِيهِ، وَالْوَصْفُ الَّذِي شَأْنُهُ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ، وَلَا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، بَلْ هُوَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ. لَا يُقَالُ: إِنَّ مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ مَثَلًا الْكَمَالِيَّةِ أَلَّا تَكُونَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، وَكَذَلِكَ الذَّكَاةُ مِنْ تَمَامِهَا أَلَّا تَكُونَ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبَةٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَأَصْلِ الذَّكَاةِ، فَقَدْ عَادَ بُطْلَانُ الْوَصْفِ بِالْبُطْلَانِ عَلَى الْمَوْصُوفِ; لِأَنَّا نَقُولُ: مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ بَنَى، وَمَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ فَبَنَى عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ كَالذَّاتِيِّ، فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا; مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَرْكَانُهَا كُلُّهَا- الَّتِي هِيَ أَكْوَانٌ- غَصْبًا; لِأَنَّهَا أَكْوَانٌ حَاصِلَةٌ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَتَحْرِيمُ الْأَصْلِ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْرِيمِ الْأَكْوَانِ; فَصَارَتِ الصَّلَاةُ نَفْسُهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَالصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ. وَكَذَلِكَ الذَّكَاةُ حِينَ صَارَتِ السِّكِّينُ مَنْهِيًّا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا غَصْبٌ، كَانَ هَذَا الْعَمَلُ الْمُعَيَّنُ وَهُوَ الذَّكَاةُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَصَارَ أَصْلُ الذَّكَاةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَعَادَ الْبُطْلَانُ إِلَى الْأَصْلِ; بِسَبَبِ بُطْلَانِ وَصْفٍ ذَاتِيٍّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَيُتَصَوَّرُ هُنَا النَّظَرُ فِي أَبْحَاثٍ هِيَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي أَصْلِنَا الْمَذْكُورِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ لِأَنَّ أَصْلَهُ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي إِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِهِ أَوْ عَدَمِ إِلْحَاقِهَا بِهِ. بَيَانُ الرَّابِعِ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ لَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي تَأَكُّدِ الِاعْتِبَارِ; فَالضَّرُورِيَّاتُ آكَدُهَا، ثُمَّ تَلِيهَا الْحَاجِيَّاتُ وَالتَّحْسِينَاتُ، وَكَانَ مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ; كَانَ فِي إِبْطَالِ الْأَخَفِّ جُرْأَةٌ عَلَى مَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ، وَمَدْخَلٌ لِلْإِخْلَالِ بِهِ، فَصَارَ الْأَخَفُّ كَأَنَّهُ حِمًى لِلْآكَدِ وَالرَّاتِعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَالْمُخِلُّ بِمَا هُوَ مُكَمِّلٌ، كَالْمُخِلِّ بِالْمُكَمَّلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ; فَإِنَّ لَهَا مُكَمِّلَاتٍ، وَهِيَ هُنَا سِوَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخِلَّ بِهَا مُتَطَرِّقٌ لِلْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَالْأَرْكَانِ; لِأَنَّ الْأَخَفَّ طَرِيقٌ إِلَى الْأَثْقَلِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» وَفِي الْحَدِيث: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ». وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنِّي لَأَجْعَلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ وَلَا أَخْرِقُهَا. وَهُوَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ ذِكْرِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. فَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى الْأَخَفِّ بِالْإِخْلَالِ بِهِ مُعَرَّضٌ لِلتَّجَرُّؤِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَكَذَلِكَ الْمُتَجَرِّئُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ; فَإِذًا قَدْ يَكُونُ فِي إِبْطَالِ الْكَمَالَاتِ بِإِطْلَاقٍ إِبْطَالُ الضَّرُورِيَّاتِ بِوَجْهٍ مَا. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِلْمُكَمِّلَاتِ وَمُخِلًّا بِهَا بِإِطْلَاقٍ، بِحَيْثُ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْهَا كَانَ نَزْرًا، أَوْ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مِنْهَا إِنْ تَعَدَّدَتْ; إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ هُوَ الْمَتْرُوكُ وَالْمُخَلُّ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَوِ اقْتَصَرَ الْمُصَلِّي عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ مَا يُسْتَحْسَنُ، وَكَانَتْ إِلَى اللَّعِبِ أَقْرَبَ، وَمِنْ هُنَا يَقُولُ بِالْبُطْلَانِ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْبَيْع: إِذَا فَاتَ فِيهِ مَا هُوَ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ كَانْتِفَاءِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ، أَوْشَكَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا مَقْصُودٌ، فَكَانَ وُجُودُ الْعَقْدِ كَعَدَمِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُهُ أَحْسَنَ مِنْ وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ النَّظَائِرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ دَرَجَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ آكَدُ مِنْهَا كَالنَّفْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فَرْضٌ، فَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ كَالْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ. وَهَكَذَا كَوْنُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ غَيْرَ نَجِسٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ وَلَا مَفْقُودِ الذَّكَاةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ إِقَامَةِ الْبِنْيَةِ، وَإِحْيَاءِ النَّفْسِ- كَالنَّفْلِ. وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا، وَمُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الْبَيْعِ- كَالنَّافِلَةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ بِالْجُزْءِ يَنْتَهِضُ أَنْ يَصِيرَ وَاجِبًا بِالْكُلِّ، فَالْإِخْلَالُ بِالْمَنْدُوبِ مُطْلَقًا يُشْبِهُ الْإِخْلَالَ بِالرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْوَاجِبِ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبُ بِمَجْمُوعِهِ وَاجِبًا فِي ذَلِكَ الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخَلَّ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ أَوْ شَبِيهٍ بِهِ- فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا- يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِبْطَالَ الْمُكَمِّلَاتِ بِإِطْلَاقٍ قَدْ يُبْطِلُ الضَّرُورِيَّاتِ بِوَجْهٍ مَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مَجْمُوعَ الْحَاجِيَّاتِ وَالتَّحْسِينِيَّاتِ يَنْتَهِضُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ضَرُورِيَّاتٌ إِنَّمَا يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ حَيْثُ يَكُونُ فِيهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ سَعَةٌ وَبَسْطَةٌ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا حَرَجٍ وَحَيْثُ يَبْقَى مَعَهَا خِصَالُ مَعَانِي الْعَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مُوَفَّرَةَ الْفُصُولِ، مُكَمَّلَةَ الْأَطْرَافِ، حَتَّى يَسْتَحْسِنَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعُقُولِ، فَإِذَا أَخَلَّ بِذَلِكَ; لَبِسَ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ لِبْسَةَ الْحَرَجِ وَالْعَنَتِ، وَاتَّصَفَ بِضِدِّ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَادَاتِ، فَصَارَ الْوَاجِبُ الضَّرُورِيُّ مُتَكَلَّفَ الْعَمَلِ، وَغَيْرَ صَافٍ فِي النَّظَرِ الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا وُضِعَتْ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيث: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»، فَكَأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فِقْدَانُ الْمُكَمِّلَاتِ; لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ وَاقِعًا عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْوَاجِبِ ظَاهِرٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخَلَلُ فِي الْمُكَمِّلِ لِلضَّرُورِيِّ وَاقِعًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَفِي يَسِيرٍ مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا يُزِيلُ حُسْنَهُ، وَلَا يَرْفَعُ بَهْجَتَهُ، وَلَا يُغْلِقُ بَابَ السَّعَةِ عَنْهُ، فَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ حَاجِيٍّ وَتَحْسِينِيٍّ إِنَّمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْأَصْلِ الضَّرُورِيِّ، وَمُؤْنَسٌ بِهِ، وَمُحَسِّنٌ لِصُورَتِهِ الْخَاصَّةِ; إِمَّا مُقَدِّمَةً لَهُ أَوْ مُقَارِنًا أَوْ تَابِعًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهُوَ يَدُورُ بِالْخِدْمَةِ حَوَالَيْهِ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُتَأَدَّى بِهِ الضَّرُورِيُّ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَثَلًا إِذَا تَقَدَّمَتْهَا الطَّهَارَةُ أَشْعَرَتْ بِتَأَهُّبٍ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَشْعَرَ التَّوَجُّهُ بِحُضُورِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَحْضَرَ نِيَّةَ التَّعَبُّدِ أَثْمَرَ الْخُضُوعَ وَالسُّكُونَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِيهَا عَلَى نَسَقِهَا بِزِيَادَةِ السُّورَةِ خِدْمَةً لِفَرْضِ أُمِّ الْقُرْآنِ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ الرَّبِّ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَبَّحَ وَتَشَهَّدَ فَذَلِكَ كُلُّهُ تَنْبِيهٌ لِلْقَلْبِ، وَإِيقَاظٌ لَهُ أَنْ يَغْفُلَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ، وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَوْ قَدَّمَ قَبْلَهَا نَافِلَةً، كَانَ ذَلِكَ تَدْرِيجًا لِلْمُصَلِّي وَاسْتِدْعَاءً لِلْحُضُورِ، وَلَوْ أَتْبَعَهَا نَافِلَةً أَيْضًا، لَكَانَ خَلِيقًا بِاسْتِصْحَابِ الْحُضُورِ فِي الْفَرِيضَةِ. وَمِنَ الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ أَنْ جُعِلَتْ أَجْزَاءُ الصَّلَاةِ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرٍ مَقْرُونٍ بِعَمَلٍ; لِيَكُونَ اللِّسَانُ وَالْجَوَارِحُ مُتَطَابِقَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ فِيهَا بِالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَمْ يَخْلُ مَوْضِعٌ مِنَ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ; لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ فَتْحًا لِبَابِ الْغَفْلَةِ، وَدُخُولِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْمُكَمِّلَاتِ الدَّائِرَةَ حَوْلَ حِمَى الضَّرُورِيِّ خَادِمَةٌ لَهُ، وَمُقَوِّيَةٌ لِجَانِبِهِ، فَلَوْ خَلَتْ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ أَكْثَرِهِ، لَكَانَ خَلَلًا فِيهَا، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي سَائِرُ الضَّرُورِيَّاتِ مَعَ مُكَمِّلَاتِهَا لِمَنِ اعْتَبَرَهَا. بَيَانُ الْخَامِسِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّرُورِيُّ قَدْ يَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِ مُكَمِّلَاتِهِ، كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا لِأَجْلِهِ مَطْلُوبَةً، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ زِينَةً لَا يَظْهَرُ حُسْنُهُ إِلَّا بِهَا، كَانَ مِنَ الْأَحَقِّ أَنْ لَا يُخِلَّ بِهَا. وَبِهَذَا كُلِّهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِي الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَهُوَ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ مُرَاعًى فِي كُلِّ مِلَّةٍ، بِحَيْثُ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الْمِلَلُ كَمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْفُرُوعِ، فَهِيَ أُصُولُ الدِّينِ، وَقَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ، وَكُلِّيَّاتُ الْمِلَّةِ.
الْمَصَالِحُ الْمَثْبُوتَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الدُّنْيَا يُنْظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَتَيْن: مِنْ جِهَةِ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ. وَمِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ بِهَا. فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ; فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ- مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ هُنَا- لَا يَتَخَلَّصُ كَوْنُهَا مَصَالِحَ مَحْضَةً، وَأَعْنِي بِالْمَصَالِحِ مَا يَرْجِعُ إِلَى قِيَامِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ، وَتَمَامِ عَيْشِهِ، وَنَيْلِهِ مَا تَقْتَضِيهِ أَوْصَافُهُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتَّى يَكُونَ مُنَعَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا فِي مُجَرَّدِ الِاعْتِيَادِ لَا يَكُونُ; لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصَالِحَ مَشُوبَةٌ بِتَكَالِيفَ وَمَشَاقَّ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، تَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ تَسْبِقُهَا أَوْ تَلْحَقُهَا; كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللِّبْسِ، وَالسُّكْنَى، وَالرُّكُوبِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ; فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِكَدٍّ وَتَعَبٍ. كَمَا أَنَّ الْمَفَاسِدَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَيْسَتْ بِمَفَاسِدَ مَحْضَةٍ مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ; إِذْ مَا مِنْ مَفْسَدَةٍ تُفْرَضُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ يَسْبِقُهَا أَوْ يَتْبَعُهَا مِنَ الرِّفْقِ، وَاللُّطْفِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ كَثِيرٌ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وُضِعَتْ عَلَى الِامْتِزَاجِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ، فَمَنْ رَامَ اسْتِخْلَاصَ جِهَةٍ فِيهَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، وَبُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِوَضْعِهَا عَلَى الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالتَّمْحِيصِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الْأَنْبِيَاء: 35]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْك: 2]، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» فَلِهَذَا لَمْ يَخْلُصْ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدٍ جِهَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ شَرِكَةِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا تُفْهَمُ عَلَى مُقْتَضَى مَا غَلَبَ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ جِهَةَ الْمَصْلَحَةِ فَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا، وَإِذَا غَلَبَتِ الْجِهَةُ الْأُخْرَى; فَهِيَ الْمَفْسَدَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ ذُو الْوَجْهَيْنِ مَنْسُوبًا إِلَى الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، فَإِنْ رَجَحَتِ الْمَصْلَحَةُ فَمَطْلُوبٌ، وَيُقَالُ فِيه: إِنَّهُ مَصْلَحَةٌ، وَإِذَا غَلَبَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ، فَمَهْرُوبٌ عَنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَفْسَدَةٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ عَلَى تَسَاوٍ; فَلَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَاتِ; فَلَهُ نِسْبَةٌ أُخْرَى وَقِسْمَةٌ غَيْرُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ. هَذَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ. وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي فِيهَا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْخِطَابَ بِهَا شَرْعًا، فَالْمَصْلَحَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهَا مَعَ الْمَفْسَدَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ شَرْعًا، وَلِتَحْصِيلِهَا وَقَعَ الطَّلَبُ عَلَى الْعِبَادِ، لِيَجْرِيَ قَانُونُهَا عَلَى أَقْوَمِ طَرِيقٍ وَأَهْدَى سَبِيلٍ، وَلِيَكُونَ حُصُولُهَا أَتَمَّ وَأَقْرَبَ وَأَوْلَى بِنَيْلِ الْمَقْصُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ تَبِعَهَا مَفْسَدَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ، فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَطَلَبِهِ. وَكَذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، فَرَفْعُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ شَرْعًا، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ لِيَكُونَ رَفْعُهَا عَلَى أَتَمِّ وُجُوهِ الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ فِي مِثْلِهَا، حَسَبَ مَا يَشْهَدُ لَهُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَإِنْ تَبِعَتْهَا مَصْلَحَةٌ أَوْ لَذَّةٌ، فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَا غَلَبَ فِي الْمَحَلِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُلْغًى فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ، كَمَا كَانَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ مُلْغَاةً فِي جِهَةِ الْأَمْرِ. فَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا أَوِ الْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا هِيَ خَالِصَةٌ غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَإِنَّ تُوُهِّمَ أَنَّهَا مَشُوبَةٌ، فَلَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَغْلُوبَةَ أَوِ الْمَفْسَدَةَ الْمَغْلُوبَةَ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مَا يَجْرِي فِي الِاعْتِيَادِ الْكَسْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى زِيَادَةٍ تَقْتَضِي الْتِفَاتَ الشَّارِعِ إِلَيْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ هُوَ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمَعْلُومَةَ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ- أَعْنِي مُعْتَبَرَةً عِنْدَ الشَّارِعِ- لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَأْمُورًا بِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْسَدَةِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ; كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَحُرْمَةِ الْكُفْرِ، وَوُجُوبِ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ وَمَنْعِ إِتْلَافِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; فَكَأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ فِي مَرَاتِبِ التَّكْلِيفِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ النَّفْسِ مِنْ إِطْلَاقِهَا وَقَطْعِهَا عَنْ نَيْلِ أَغْرَاضِهَا وَقَهْرِهَا تَحْتَ سُلْطَانِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا لَذَّةَ فِيهِ لَهَا، وَكَانَ الْكُفْرُ الَّذِي يَقْتَضِي إِطْلَاقَ النَّفْسِ مِنْ قَيْدِ التَّكْلِيفِ، وَتَمَتُّعَهَا بِالشَّهَوَاتِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ; لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَلْذُوذَةَ وَالْمُخْرِجَةَ عَنِ الْقُيُودِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ مَحْضٌ، بَلِ الْإِيمَانُ مَطْلُوبٌ بِإِطْلَاقٍ، وَالْكُفْرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الْإِيمَانِ، وَجِهَةَ الْمَصْلَحَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرَانِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا عَادَةً وَطَبْعًا. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَقْصُودَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا; لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ كُلُّهُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ شَرْعًا، أَمَّا كَوْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بَاطِلًا شَرْعًا، فَمَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ; فَلِأَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ مَثَلًا مُضَادَّةٌ فِي الطَّلَبِ لِلْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، وَقَدْ أُمِرَ مَثَلًا بِإِيقَاعِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ مَنْهِيًّا عَنْ إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَمَنْهِيٌّ عَنْ إِيقَاعِهِ مَعًا، وَالْجِهَتَانِ غَيْرُ مُنْفَكَّتَيْنِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ، فَلَا بُدَّ فِي إِيقَاعِ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِ إِيقَاعِهِ مِنْ تَوَارُدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، فَقَدْ قِيلَ لَهُ: افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ، أَيْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا، وَلَكِنْ مَأْذُونًا فِيهَا; فَلَا يَجْتَمِعُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا، فَلَا يَلْزَمُ الْمَحْظُورُ. لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ; فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْذُونًا فِيهَا، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ، فَالْإِذْنُ مُضَادٌّ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، فَإِنَّ التَّخْيِيرَ مُنَافٍ لِعَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَهُمَا وَارِدَانِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَوُرُودُ الْخِطَابِ بِهِمَا مَعًا خِطَابٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ إِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَاطَبِ بِهِ، وَهُوَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ بِأَنْ يُصَلَّى فِي غَيْرِ الدَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ مُشِيرٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَيْرُ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا مُمْتَزِجًا خَيْرُهُ بَشَّرِّهِ، فَالْخَيْرُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ الشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِهِ;كَالطَّبِيبِ عِنْدَهُمْ إِذَا سَقَى الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْمُرَّ الْبَشِعَ الْمَكْرُوهَ، فَلَمْ يَسْقِهِ إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَارَةِ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، إِنَّمَا قَصْدُهُ بِذَلِكَ جَلْبُ الرَّاحَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ; فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَمَا تَقَدَّمَ شَبِيهٌ بِهَذَا مِنْ حَيْثُ قُلْتُ: إِنَّ الشَّارِعَ- مَعَ قَصْدِهِ التَّشْرِيعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ- لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ، مَعَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ. وَهُوَ أَيْضًا مُشِيرٌ إِلَى مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشُّرُورَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْوُقُوعِ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْدِ الْخَلْقِيِّ التَّكْوِينِيِّ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْقَصْدِ التَّشْرِيعِيِّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ بِإِطْلَاقٍ حَسَبَ مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكُلُّ مَا شُرِعَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، فَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي الْوُجُودِ فَبِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَعَنِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَحُكْمُ التَّشْرِيعِ أَمْرٌ آخَرُ لَهُ نَظَرٌ وَتَرْتِيبٌ آخَرُ عَلَى حَسَبِ مَا وَضَعَهُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةَ الْوُقُوعِ، أَوْ عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبُطْلَانُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَالْقَصْدُ التَّشْرِيعِيُّ شَيْءٌ وَالْقَصْدُ الْخُلُقِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، لَا مُلَازَمَةَ بَيْنِهِمَا.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ مَقْصُودَةَ الِاعْتِبَارِ لِلشَّارِعِ، فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِ ذَلِكَ، ثُمَّ تَخْلِيصِ الْحُكْمِ فِيهِ بِحَوْلِ اللَّهِ. مِثَالُهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَكْلُ النَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ اضْطِرَارًا، وَقَتْلُ الْقَاتِلِ، وَقَطْعُ الْقَاطِعِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعُقُوبَاتُ وَالْحُدُودُ لِلزَّجْرِ، وَقَطَعُ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ، وَقَلْعُ الضِّرْسِ الْوَجِعَةِ، وَالْإِيلَامُ بِقَطْعِ الْعُرُوقِ وَالْفَصْدِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لِلتَّدَاوِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَوِ انْفَرَدَتْ عَمَّا غَلَبَ عَلَيْهَا لَكَانَ النَّهْيُ عَنْهَا مُتَوَجِّهًا، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَتَسَاوَى الْجِهَتَانِ، أَوْ تَتَرَجَّحَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى. فَإِنْ تَسَاوَتَا; فَلَا حُكْمَ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، إِذَا ظَهَرَ التَّسَاوِي بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ، فَلَا تَرْجِيحَ إِلَّا بِالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقٌ بِالطَّرَفَيْنِ مَعًا: طَرَفِ الْإِقْدَامِ، وَطَرَفِ الْإِحْجَامِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ;لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا تَسَاوِيَ الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ مَعًا، وَلَا يَكُونُ أَيْضًا الْقَصْدُ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا أَنَّ تَوَارُدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، وَهُمَا عَلَمَانِ عَلَى الْقَصْدِ عَلَى الْجُمْلَةِ حَسَبَ مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى;إِذْ لَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ لِلْمُكَلَّفِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ. وَأَمَّا إِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى;فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقٌ بِالْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ- أَعْنِي فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ- وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْجِهَةِ الْأُخْرَى; إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْجِهَةِ الْأُخْرَى لَمَا صَحَّ التَّرْجِيحُ، وَلَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا إِذَا تَسَاوَتِ الْجِهَتَانِ; فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ وُجُودِ التَّرْجِيحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجِهَتَيْنِ مَعًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ مُعْتَبَرَتَانِ، إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلشَّارِعِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا كُلِّفْنَا بِمَا يَنْقَدِحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، لَا بِمَا هُوَ مَقْصُودُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالرَّاجِحَةُ- وَإِنْ تَرَجَّحَتْ- لَا تَقْطَعُ إِمْكَانَ كَوْنِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلشَّارِعِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ مُطَّرَحٌ فِي التَّكْلِيفِ إِلَّا عِنْدَ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ، وَغَيْرُ مُطَّرَحٍ فِي النَّظَرِ، وَمِنْ هَنَا نَشْأَتْ قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ، وَالْإِمْكَانُ الْأَوَّلُ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَوِّبِينَ، وَالثَّانِي جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُخَطِّئِينَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ; فَالَّذِي تَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ لَاجْتَمَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ; فَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا; فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَرْجُوحَةَ جَارِيًا عَلَى الِاعْتِيَادِ، أَوْ خَارِجًا عَنْهُ; فَالْقِيَاسُ مُسْتَمِرٌّ، وَالْبُرْهَانُ مُطْلَقٌ فِي الْقِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الْمَغْلُوبَةُ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي; فَإِنَّ مَقَاصِدَ الشَّارِعِ تَنْقَسِمُ إِلَى ذَيْنَكَ الضَّرْبَيْنِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَصْدَ الثَّانِيَ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا لَمْ يُنَاقِضِ الْقَصْدَ الْأَوَّلَ، فَإِذَا نَاقَضَهُ; لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَلَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
لَمَّا كَانَتِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ عَلَى ضَرْبَيْن: دُنْيَوِيَّةٍ، وَأُخْرَوِيَّةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، اقْتَضَى الْحَالُ الْكَلَامَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَنَقُولُ: إِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لَا امْتِزَاجَ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ بِالْآخَرِ; كَنَعِيمِ أَهْلِ الْجِنَانِ، وَعَذَابِ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النِّيرَانِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ، وَأَدْخَلَنَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُمْتَزِجَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي النَّارِ خَاصَّةً، فَإِذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ رَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَسَبَ مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ; إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَجَالٌ، وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى أَحْكَامَهَا مِنَ السَّمْعِ. أَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي مُمْتَزِجًا فَظَاهِرٌ; لِأَنَّ النَّارَ لَا تَنَالُ مِنْهُمْ مَوَاضِعَ السُّجُودِ، وَلَا مَحَلَّ الْإِيمَانِ، وَتِلْكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ لَمْ تَتَمَحَّضْ لِلشَّرِّ خَاصَّةً; فَلَا تَأْخُذُهُمُ النَّارُ أَخْذَ مَنْ لَا خَيْرَ فِي عَمَلِهِ عَلَى حَالٍ، وَهَذَا كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ الرَّجَاءُ الْمُعَلَّقُ بِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ رَاحَةٌ مَا، حَاصِلَةٌ لَهُ مَعَ التَّعْذِيبِ، فَهِيَ تُنَفِّسُ عَنْهُ مِنْ كُرَبِ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، مَنِ اسْتَقْرَاهَا أَلْفَاهَا. وَأَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَحْضًا; فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزُّخْرُف: 75]. وَقَوْلِه: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الْآيَةَ [الْحَجّ: 19]. وَقَوْلِه: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [طه: 74]. وَهُوَ أَشَدُّ مَا هُنَالِكَ، إِلَى سَائِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَفِي الْجَنَّةِ آيَاتٌ أُخَرُ وَأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا عَذَابَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا مَفْسَدَةَ; كَقَوْلِه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} إِلَى قَوْلِه: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الْحِجْر: 45- 48]. وَقَوْلِه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزُّمَر: 73]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَنَّة: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَفِي النَّار: أَنْتِ عَذَابِي؛ فَسَمَّى هَذِهِ بِالرَّحْمَةِ مُبَالَغَةً، وَهَذِهِ بِالْعَذَابِ مُبَالَغَةً. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي النَّارِ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَنَّ فِيهَا دَرَجَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ، وَجَاءَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْ يُحْرَمُ بَعْضَ نَعِيمِهَا; كَالَّذِي يَمُوتُ مُدْمِنَ خَمْرٍ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَتْ دَرَكَاتُ الْجَحِيمِ- أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا- بَعْضُهَا أَشَدُّ; فَالَّذِي دُونَ الْأَشَدِّ أَخَفُّ مِنَ الْأَشَدِّ، وَالْخِفَّةُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ وَصْفُ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُحَصِّلُ مَصْلَحَةً مَا. وَأَيْضًا; فَالْقَدْرُ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ الْعَذَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُتَوَهَّمُ فَوْقَهُ خَفِيفٌ، كَمَا أَنَّهُ شَدِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ، وَإِذَا تُصُوِّرَتِ الْخِفَّةُ- وَلَوْ بِنِسْبَةٍ مَا- فَهِيَ مَصْلَحَةٌ فِي ضِمْنِ مَفْسَدَةِ الْعَذَابِ، كَمَا أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ; فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ عَمَلُ الطَّاعَةِ قَلِيلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ، كَانَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُتْبَةَ آخِرِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ كَرُتْبَةِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ وَدَأَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ عُمُرَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ عَمَلِ الْأَوَّلِ السَّبَبِيِّ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْآخِرَةِ نَعِيمًا كَدَّرَهُ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَعْنَى مُمَازَجَةِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْقِسْمَانِ مَعًا قِسْمٌ وَاحِدٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْمَنْقُولِ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ مُمْتَزِجَةَ النَّعِيمِ بِالْعَذَابِ، وَلَا أَنَّ فِيهَا مَفْسَدَةً مَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، هَذَا مُقْتَضَى نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، نَعَمِ الْعَقْلُ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ; فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَيَاتِ الْعُقُولِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي النَّارِ إِنَّ فِيهَا لِلْمُخَلَّدِينَ رَحْمَةً تَقْتَضِي مَصْلَحَةً مَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزُّخْرُف: 75]. فَلَا حَالَةَ هُنَالِكَ يَسْتَرِيحُونَ إِلَيْهَا وَإِنْ قَلَّتْ، كَيْفَ وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ؟! عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا. وَمَا جَاءَ فِي حِرْمَانِ الْخَمْرِ; فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَرَاتِبِ، فَلَا يَجِدُ مَنْ يُحْرَمُهَا أَلَمًا بِفَقْدِهَا، كَمَا لَا يَجِدُ الْجَمِيعُ أَلَمًا بِفَقْدِ شَهْوَةِ الْوَلَدِ، أَمَّا الْمُخْرَجُ إِلَى الضَّحْضَاحِ; فَأَمْرٌ خَاصٌّ، كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ، وَعَنَاقِ أَبِي بُرْدَةَ، وَلَا نَقْضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأُصُولِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ; غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ هُنَا فِي وَجْهِ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ، لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرَاتِبَ- وَإِنَّ تَفَاوَتَتْ- لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفَاوُتِهَا نَقِيضٌ وَلَا ضِدٌّ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلَانٌ عَالِمٌ فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِالْعِلْمِ وَأَطْلَقْتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَابُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَهُ عَلَى كَمَالِهِ، فَإِذَا قُلْتَ: وَفُلَانٌ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ، فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّانِيَ حَازَ رُتْبَةً فِي الْعِلْمِ فَوْقَ رُتْبَةِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ، وَلَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ نَقْصًا مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا غَضًّا مِنَ الْمَرْتَبَةِ، بِحَيْثُ يُدَاخِلُهُ ضِدُّهُ، بَلِ الْعُلَمَاءُ مُنَعَّمُونَ نَعِيمًا لَا نَقْصَ فِيهِ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوْقَ ذَلِكَ فِي النَّعِيمِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَذَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ. كُلٌّ فِي الْعَذَابِ لَا يُدَاخِلُهُ رَاحَةٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ; أَجَابَ بِمَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَرْتِيبِهِمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِه: «خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ»، ثُمَّ قَالَ: «وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ» رَفْعًا لِتَوَهُّمِ الضِّدِّ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَفْعَلُ التَّفْصِيلِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 16]، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ تَفْضِيلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْضَ دُورِ الْأَنْصَارِ عَلَى بَعْضٍ تَنْقِيصًا بِالْمَفْضُولِ، وَلَوْ قُصِدَ ذَلِكَ; لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الذَّمِّ مِنْهُ إِلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ فَإِنَّ فِي آخِرِه: فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ خَيَّرَ الْأَنْصَارَ; فَجَعَلَنَا أَخِيرًا؟ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مَنِ الْأَخْيَارِ؟ لَكِنَّ التَّقْدِيمَ فِي التَّرْتِيبِ يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَزِيَّةِ، وَلَا يَقْتَضِي اتِّصَافَ الْمُؤَخَّرِ بِالضِّدِّ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ يَجْرِي حُكْمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ، وَبَيْنَ الْأَنْوَاعِ، وَبَيْنَ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الْبَقَرَة: 253]. {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الْإِسْرَاء: 55]. وَفِي الْحَدِيث: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ». وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ تَرْتِيبَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِيقَةِ النَّوْعِ لَا يُمْكِنُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ بَعْضُ الْأَشْخَاصِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْصَافِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ جِدًّا، مَنْ تَحَقَّقَهُ هَانَتْ عَلَيْهِ مُعْضِلَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ; كَالتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي زَلَّتْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهَا أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
إِذًا; ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ قَصَدَ بِالتَّشْرِيعِ إِقَامَةَ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ; وَذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَلُّ لَهَا بِهِ نِظَامٌ، لَا بِحَسَبِ الْكُلِّ وَلَا بِحَسَبِ الْجُزْءِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ أَوِ الْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ; فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلَّ نِظَامُهَا أَوْ تَنْحَلَّ أَحْكَامُهَا; لَمْ يَكُنِ التَّشْرِيعُ مَوْضُوعًا لَهَا، إِذْ لَيْسَ كَوْنُهَا مَصَالِحَ إِذْ ذَاكَ بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا مَفَاسِدَ، لَكِنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ بِهَا أَنْ تَكُونَ مَصَالِحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَبَدِيًّا وَكُلِّيًّا وَعَامًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكْلِيفِ وَالْمُكَلَّفِينَ وَجَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا الْأَمْرَ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَأَيْضًا; فَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لَا تَخْتَصُّ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَنَزَّلَتْ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، فَعَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ، وَإِنْ خَصَّتْ بَعْضًا; فَعَلَى نَظَرِ الْكُلِّيِّ، كَمَا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ كُلِّيَّةً; فَلِيَدْخَلَ تَحْتَهَا الْجُزْئِيَّاتُ، فَالنَّظَرُ الْكُلِّيُّ فِيهَا مَنْزِلٌ لِلْجُزْئِيَّاتِ، وَتَنَزُّلُهُ لِلْجُزْئِيَّاتِ لَا يَخْرِمُ كَوْنَهُ كُلِّيًّا، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ دَلَّ عَلَى كَمَالِ النِّظَامِ فِي التَّشْرِيعِ، وَكَمَالُ النِّظَامِ فِيهِ يَأْبَى أَنْ يَنْخَرِمَ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْمَصَالِحُ.
الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ شَرْعًا وَالْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تُقَامُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِهَا الْعَادِيَّةِ، أَوْ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا الْعَادِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتُخْرِجَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ دَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ، حَتَّى يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَطَلَبِ مَنَافِعِهَا الْعَاجِلَةِ كَيْفَ كَانَتْ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الْآيَةَ [الْمُؤْمِنُونَ: 71]. وَالثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْحَاصِلَةَ لِلْمُكَلَّفِ مَشُوبَةٌ بِالْمَضَارِّ عَادَةً، كَمَا أَنَّ الْمَضَارَّ مَحْفُوفَةٌ بِبَعْضِ الْمَنَافِعِ، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ النُّفُوسَ مُحْتَرَمَةٌ مَحْفُوظَةٌ وَمَطْلُوبَةُ الْإِحْيَاءِ، بِحَيْثُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ إِحْيَائِهَا وَإِتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهَا، أَوْ إِتْلَافِهَا وَإِحْيَاءِ الْمَالِ، كَانَ إِحْيَاؤُهَا أَوْلَى، فَإِنْ عَارَضَ إِحْيَاؤُهَا إِمَاتَةَ الدِّينِ، كَانَ إِحْيَاءُ الدِّينِ أَوْلَى، وَإِنْ أَدَّى إِلَى إِمَاتَتِهَا كَمَا جَاءَ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَمَا إِذَا عَارَضَ إِحْيَاءُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِمَاتَةَ نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ فِي الْمُحَارِبِ مَثَلًا، كَانَ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْآلَامِ فِي تَحْصِيلِهِ ابْتِدَاءً وَفِي اسْتِعْمَالِهِ حَالًا وَفِي لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ انْتِهَاءً كَثِيرًا. وَمَعَ ذَلِكَ; فَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ- حَتَّى إِنَّ الْعُقَلَاءَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكُوا مِنْ تَفَاصِيلِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مَا أَتَى بِهِ الشَّرْعُ؛ فَقَدِ اتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اعْتِبَارِ إِقَامَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهَا أَوْ لِلْآخِرَةِ، بِحَيْثُ مَنَعُوا مِنِ اتِّبَاعِ جُمْلَةٍ مِنْ أَهْوَائِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، هَذَا وَإِنْ كَانُوا بِفَقْدِ الشَّرْعِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَالشَّرْعُ لَمَّا جَاءَ بَيَّنَ هَذَا كُلَّهُ وَحَمَلَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لِيُقِيمُوا أَمْرَ دُنْيَاهُمْ لِآخِرَتِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ عَامَّتَهَا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضَافِيَّةً أَنَّهَا مَنَافِعُ أَوْ مَضَارُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، أَوْ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ; فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مَثَلًا مَنْفَعَةٌ لِلْإِنْسَانِ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ دَاعِيَةِ الْأَكْلِ، وَكَوْنِ الْمُتَنَاوَلِ لَذِيذًا طَيِّبًا لَا كَرِيهًا وَلَا مُرًّا، وَكَوْنِهِ لَا يُوَلِّدُ ضَرَرًا عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، وَجِهَةُ اكْتِسَابِهِ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ عَاجِلٌ وَلَا آجِلٌ، وَلَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ بِسَبَبِهِ أَيْضًا ضَرَرٌ عَاجِلٌ وَلَا آجِلٌ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَلَّمَا تَجْتَمِعُ فَكَثِيرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ تَكُونُ ضَرَرًا عَلَى قَوْمٍ لَا مَنَافِعَ، أَوْ تَكُونُ ضَرَرًا فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ، وَلَا تَكُونُ ضَرَرًا فِي آخَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي كَوْنِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَشْرُوعَةً، أَوْ مَمْنُوعَةً لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، لَا لِنَيْلِ الشَّهَوَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ، لَمْ يَحْصُلْ ضَرَرٌ مَعَ مُتَابَعَةِ الْأَهْوَاءِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ لَا تَتْبَعُ الْأَهْوَاءَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْأَغْرَاضَ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ بِحَيْثُ إِذَا نَفِذَ غَرَضُ بَعْضٍ وَهُوَ مُنْتَفِعٌ بِهِ تَضَرَّرَ آخَرُ لِمُخَالِفَةِ غَرَضِهِ; فَحُصُولُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَكْثَرِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَغْرَاضِ، وَإِنَّمَا يَسْتَتِبُّ أَمْرُهَا بِوَضْعِهَا عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ مُطْلَقًا، وَافَقَتِ الْأَغْرَاضَ أَوْ خَالَفَتْهَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ، كَمَا قَرَّرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ; إِذْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ انْتِفَاعٌ حَقِيقِيٌّ وَلَا ضَرَرٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِنَّمَا عَامَّتُهَا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً. وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ إِذَا كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ- وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ خِطَابِهِ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ حَتَّى يَكُونَ الِانْتِفَاعُ الْمُعَيَّنُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ أَوْ بِحَسَبِ شَخْصٍ، وَغَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَكَيْفَ يُسَوِّغُ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ؟ وَأَيْضًا; فَإِذَا كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَا تَخْلُو مِنْ مَضَارَّ وَبِالْعَكْسِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْإِذْنُ وَالنَّهْيُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَيْفَ يُقَالُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْخَمْرِ مَثَلًا الْإِذْنُ مِنْ حَيْثُ مَنْفَعَةِ الِانْتِشَاءِ، وَالتَّشْجِيعِ، وَطَرْدِ الْهُمُومِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَيْضًا الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ مَضَرَّةِ سَلْبِ الْعَقْلِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ، أَوْ يُقَالُ: الْأَصْلُ فِي شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمَنْعُ لِمَضَرَّةِ شُرْبِهِ لِكَرَاهَتِهِ وَفَظَاعَتِهِ وَمَرَارَتِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُمَا غَيْرُ مُنْفَكَّيْنِ فَيَكُونُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِذْنَ وَعَدَمَ الْإِذْنِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ فَإِنْ قِيلَ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّعَارُضِ الرَّاجِحُ فَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَمَا سِوَاهُ فِي حُكْمِ الْمُغْفَلِ الْمُطَّرَحِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَشُدُّ مَا تَقَدَّمَ؛ إِذْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَ أَصْلُهَا الْإِبَاحَةَ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ الْمَضَارَّ لَيْسَ أَصْلُهَا الْمَنْعَ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ ضَرَرٌ مَا مُتَوَقَّعٌ، أَوْ نَفْعٌ مَا مُنْدَفِعٌ. وَمِنْهَا أَنَّ الْقَرَافِيَّ أَوْرَدَ إِشْكَالًا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبِرِينَ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ إِنْ كَانَ مُسَمَّاهُمَا كَيْفَ كَانَا; فَمَا مِنْ مُبَاحٍ إِلَّا وَفِيهِ فِي الْغَالِبِ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ، فَإِنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ وَلُبْسَ اللَّيِّنَاتِ فِيهَا مَصَالِحُ الْأَجْسَادِ وَلَذَّاتُ النُّفُوسِ، وَآلَامٌ وَمَفَاسِدُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَكَسْبِهَا، وَتَنَاوُلِهَا، وَطَبْخِهَا، وَإِحْكَامِهَا، وَإِجَادَتِهَا بِالْمَضْغِ، وَتَلْوِيثِ الْأَيْدِي...، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا لَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ وُجُودِهِ وَعَدِمِهِ; لَاخْتَارَ عَدَمَهُ فَمَنْ يُؤْثِرُ وَقِيدَ النِّيرَانِ وَمُلَابَسَةَ الدُّخَانِ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى مُبَاحٌ أَلْبَتَّةَ. وَإِنْ أَرَادُوا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِهِمَا مَعَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْخُصُوصِ مُتَعَدِّدَةٌ; فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الِاعْتِزَالِ; فَإِنَّهُ سَفَهٌ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ ضَابِطَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَصْلَحَةٍ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى تَرْكِهَا، وَكُلَّ مَفْسَدَةٍ تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى فِعْلِهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَمَا أَهْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَقْصُودِنَا، فَنَحْنُ نُرِيدُ مُطْلَقَ الْمُعْتَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ; لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَعِيدُ عِنْدَكُمْ، وَالتَّكْلِيفُ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَيَجِبُ عِنْدَكُمْ بِالْعَقْلِ أَنْ يَتَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى تَرْكِ الْمَصَالِحِ، وَفِعْلِ الْمَفَاسِدِ، فَلَوِ اسْتَفَدْتُمُ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنَ الْوَعِيدِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، وَلَوْ صَحَّتِ الِاسْتِفَادَةُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنَ الْوَعِيدِ لَلَزِمَكُمْ أَنْ تُجَوِّزُوا أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ بِتَرْكِ الْمَصَالِحِ وَفِعْلِ الْمَفَاسِدِ، وَتَنْعَكِسُ الْحَقَائِقُ حِينَئِذٍ; فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّكْلِيفُ; فَأَيُّ شَيْءٍ كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً، وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَكُمْ. قَالَ: وَأَمَّا حَظُّ أَصْحَابِنَا مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، فَهُوَ أَنْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَاعَى مُطْلَقَ الْمَصْلَحَةِ وَمُطْلَقَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْضِيلِ; لِأَنَّ الْمُبَاحَاتِ فِيهَا ذَلِكَ وَلَمْ يُرَاعَ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ أَلْغَى بَعْضَهَا فِي الْمُبَاحَاتِ، وَاعْتَبَرَ بَعْضَهَا، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ ضَابِطِ الْمُعْتَبَرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عَسُرَ الْجَوَابُ، بَلْ سَبِيلُهُمُ اسْتِقْرَاءُ الْمَوَاقِعِ فَقَطْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُخِلُّ بِنَمَطٍ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِ الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27]، وَ{يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [الْمَائِدَة: 1] وَيَعْتَبِرُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ لَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يُوجِبُونَ ذَلِكَ عَقْلًا; فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ; لِأَنَّهُمْ إِذَا فَتَحُوا هَذَا الْبَابَ تَزَلْزَلَتْ قَوَاعِدُ الِاعْتِزَالِ. هَذَا مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. وَأَنْتَ إِذَا رَاجَعَتْ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا، لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْإِشْكَالِ مَوْقِعٌ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ، فَإِنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ دَلَّ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ مِمَّا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يُحَصِّلُ ضَوَابِطَ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْجَارِينَ عَلَى جَادَّةِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِالْخُرُوجِ فِي جَرَيَانِهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِنِظَامٍ، وَلَا هَدْمٍ لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَفِي وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرْعِ، وَكُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ; حَصَلَ لَهُمْ بِهِ ضَوَابِطُ فِي كُلِّ بَابٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَمَبْسُوطٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ; فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْتَبِرُونَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ بِحَسَبِ مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ الْعَقْلُ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالتَّفْصِيلِ فِي الْمَصَالِحِ، أَوْ يَنْخَرِمُ بِهِ فِي الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ جَعَلُوا الشَّرْعَ كَاشِفًا لِمُقْتَضَى مَا ادَّعَاهُ الْعَقْلُ عِنْدَهُمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ فِي مَحْصُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمُدْرَكِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ لَا يَضُرُّ فِي كَوْنِ الْمَصَالِحِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا، وَمُنْضَبِطَةً فِي أَنْفُسِهَا. وَقَدْ نَزَعَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي كَلَامِهِ عَلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، حِينَ فَسَّرَهَا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهَا جَوَازُ الْإِقْدَامِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ قَالَ: هُوَ مُشْكَلٌ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ وَالْحُدُودُ وَالتَّعَازِيرُ وَالْجِهَادُ وَالْحَجُّ رُخْصَةً; إِذْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِيهِ مَانِعَان: ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِلْزَامِهِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجّ: 78]، وَفِي الْحَدِيث: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْآخَرُ أَنَّ صُورَةَ الْإِنْسَانِ مُكَرَّمَةٌ، لِقَوْلِه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الْإِسْرَاء: 70]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التِّين: 4]، وَذَلِكَ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يُهْلِكَ بِالْجِهَادِ، وَلَا يُلْزِمُهُ الْمَشَاقَّ وَالْمَضَارَّ. وَأَيْضًا الْإِجَارَةُ رُخْصَةٌ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَالسَّلَمُ كَذَلِكَ، وَالْقِرَاضُ وَالْمُسَاقَاةُ رُخْصَتَانِ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ، وَالصَّيْدُ رُخْصَةٌ لِأَكْلِ الْحَيَوَانِ بِدَمِهِ، وَلَمْ تُعَدَّ مِنْهَا، وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مَصْلَحَةَ إِلَّا وَفِيهَا مَفْسَدَةٌ، وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ قَلَّتْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ; فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمَا؟ وَعَلَى هَذَا مَا فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَانِعِ مَا سَلِمَ عَنِ الْمَعَارِضِ الرَّاجِحِ; فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرَهُ وُجِدَ فِيهِ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْتَةِ; فَحِينَئِذٍ مَا الْمُرَادُ إِلَّا الْمَانِعُ الْمَغْمُورُ بِالرَّاجِحِ، وَحِينَئِذٍ تَنْدَرِجُ جَمِيعُ الشَّرِيعَةِ; لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِيهِ مَانِعٌ مَغْمُورٌ بِمُعَارِضِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي شَرْحَيِ التَّنْقِيحِ وَ الْمَحْصُولِ الْعَجْزُ عَنْ ضَبْطِ الرُّخْصَةِ. وَمَا تَقَدَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يُغْنِي فِي الْمَوْضِعِ، مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الرُّخْصَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِذَا فُهِمَتْ حَصَلَ بِهَا فَهْمُ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الْبَقَرَة: 29]. وَقَوْلِه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَة: 13]. وَقَوْلِه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الْآيَةَ [الْأَعْرَاف: 32]. وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِقُيُودٍ تَقَيَّدَتْ بِهَا، حَسَبَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي وَضْعِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: إِنَّ مَصَالِحَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدَهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ; فَتُعْرَفُ بِالضَّرُورَاتِ، وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ، وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ. قَالَ: وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ رَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا، فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ، بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا التَّعَبُّدَاتُ الَّتِي لَمْ يُوقَفْ عَلَى مَصَالِحِهَا أَوْ مَفَاسِدِهَا. هَذَا قَوْلُهُ. وَفِيهِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ، أَمَّا أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالشَّرْعِ; فَكَمَا قَالَ. وَأَمَّا مَا قَالَ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ بَعْدَ زَمَانِ فَتْرَةٍ؛ تَبَيَّنَ بِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مِنِ انْحِرَافِ الْأَحْوَالِ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ بِإِطْلَاقٍ; لَمْ يَحْتَجْ فِي الشَّرْعِ إِلَّا إِلَى بَثِّ مَصَالِحِ الدَّارِ الْآخِرَةِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَا يُقِيمُ أَمْرَ الدُّنْيَا وَأَمْرَ الْآخِرَةِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِإِقَامَةِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ; فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ كَوْنِهِ قَاصِدًا لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا; حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهَا سُلُوكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَثَّ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَحَسَمَ مِنْ أَوْجُهِ الْفَسَادِ الَّتِي كَانَتْ جَارِيَةً مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ; فَالْعَادَةُ تُحِيلُ اسْتِقْلَالَ الْعُقُولِ فِي الدُّنْيَا بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِهَا تَحْصُلُ بِالتَّجَارِبِ وَغَيْرِهَا، بَعْدَ وَضْعِ الشَّرْعِ أُصُولَهَا، فَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ.
كَوْنُ الشَّارِعِ قَاصِدًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْحَاجِيَّةِ، وَالتَّحْسِينِيَّةِ، لَا بُدَّ عَلَيْهِ مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَنَدُ إِلَيْهِ، وَالْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ظَنِّيًّا أَوْ قَطْعِيًّا، وَكَوْنُهُ ظَنِّيًّا بَاطِلٌ، مَعَ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ أُصُولِهَا، وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ قَطْعِيَّةٌ حَسَبَ مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَأُصُولُ أُصُولِهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَلَوْ جَازَ إِثْبَاتُهَا بِالظَّنِّ، لَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ مَظْنُونَةً أَصْلًا وَفَرْعًا، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، فَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ بِلَا بُدٍّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكَوْنُ هَذَا الْأَصْلِ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا. فَالْعَقْلِيُّ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا; لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى تَحْكِيمِ الْعُقُولِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَقْلِيًّا. وَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ; إِمَّا أَنْ تَكُونَ نُصُوصًا جَاءَتْ مُتَوَاتِرَةَ السَّنَدِ لَا يَحْتَمِلُ مَتْنُهَا التَّأْوِيلَ عَلَى حَالٍ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نُصُوصًا، أَوْ كَانَتْ وَلَمْ يَنْقُلْهَا أَهْلُ التَّوَاتُرِ; فَلَا يَصِحُّ اسْتِنَادُ مِثْلِ هَذَا إِلَيْهَا; لِأَنَّ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَتْ نُصُوصًا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمُتَوَاتِرَةَ السَّنَدِ، فَهَذَا مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ، إِلَّا أَنَّهُ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُودِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَالْقَائِلُ بِوُجُودِهِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تُفْرَضُ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ. وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ فِي الشَّرِيعَةِ يَقُولُ: إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً مَوْقُوفٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ عَشْرٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ظَنِّيَّةٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا; فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ الْعَادِيِّ، وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ، وَعَدَمِ التَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ، وَعَدَمِ التَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ، وَعَدَمِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ. وَمِنَ الْمُعْتَرِفِينَ بِوُجُودِهِ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ فِي أَنْفُسِهَا لَا تُفِيدُ قَطْعًا، لَكِنَّهَا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مُشَاهَدَةٌ أَوْ مَنْقُولَةٌ فَقَدْ تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ دَلِيلَ مَسْأَلَتِنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ; لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْيَقِينِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِكُلِّ دَلِيلٍ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ كُلُّهَا قَطْعِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَلْزَمُ، ثُمَّ وَجَدْنَا أَكْثَرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ، أَوِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ مَعًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ افْتِقَارِ الْأَدِلَّةِ إِلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ وَالْيَقِينِ نَادِرٌ، عَلَى قَوْلِ الْمُقِرِّينَ بِذَلِكَ، وَغَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ. فَثَبَتَ أَنَّ دَلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ. وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ كَافٍ، وَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ; لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا أَوَّلًا: مُفْتَقِرٌ إِلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ شَرْعًا، نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يَعْسُرُ إِثْبَاتُهُ وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُهُ، ثُمَّ نَقُولُ: ثَانِيًا: إِنْ فُرِضَ وُجُودُهُ; فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَكُونُ مُسْتَنَدَهُمْ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ; فَقَدْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً لَا قَطْعِيَّةً، فَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ قَطْعِيًّا عَلَى فَرْضِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَهَا مُسْتَنَدٌ قَطْعِيٌّ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى مُسْتَنَدٍ ظَنِّيٍّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ خَالَفَ فِي كَوْنِ هَذَا الْإِجْمَاعِ حُجَّةً. فَإِثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَتَخَلَّصُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصْعُبُ الطَّرِيقُ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الْقَطْعِيِّ. وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ هُوَ رُوحُ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الثَّلَاثَ لَا يَرْتَابُ فِي ثُبُوتِهَا شَرْعًا أَحَدٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّتِهَا الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى حَدِّ الِاسْتِقْرَاءِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُثْبَتُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ مُنْضَافٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَغْرَاضِ; بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَمْرٌ وَاحِدٌ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى حَدِّ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْعَامَّةِ جُودُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; فَلَمْ يَعْتَمِدِ النَّاسُ فِي إِثْبَاتِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ عَلَى دَلِيلٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، بَلْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ، وَالْمُطْلَقَاتِ وَالْمُقَيَّدَاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ فِي أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ حَتَّى أَلْفَوْا أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا دَائِرَةً عَلَى الْحِفْظِ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ، هَذَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالٍ مَنْقُولَةٍ وَغَيْرِ مَنْقُولَةٍ. وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ أَفَادَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ، إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ آحَادُ الْمُخْبِرِينَ، لَكَانَ إِخْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرْضِ عَدَالَتِهِ مُفِيدًا لِلظَّنِّ، فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعُهُمْ يَعُودُ بِزِيَادَةٍ عَلَى إِفَادَةِ الظَّنِّ، لَكِنْ لِلِاجْتِمَاعِ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِلِافْتِرَاقِ، فَخَبَرٌ وَاحِدٌ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ مَثَلًا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ آخَرُ قَوِيَ الظَّنُّ، وَهَكَذَا خَبَرٌ آخَرُ وَآخَرُ حَتَّى يَحْصُلَ بِالْجَمِيعِ الْقَطْعُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَكَذَلِكَ هَذَا; إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْأَخْبَارُ. وَهَذَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا; فَمَنْ كَانَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ النَّاظِرِينَ فِي مُقْتَضَاهَا، وَالْمُتَأَمِّلِينَ لِمَعَانِيهَا سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ بِإِثْبَاتِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ.
هَذِهِ الْكُلِّيَّاتُ الثَّلَاثُ إِذَا كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ لِلْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِهَا; فَلَا يَرْفَعُهَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَمَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ; فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِلِازْدِجَارِ، مَعَ أَنَّا نَجِدُ مَنْ يُعَاقَبُ فَلَا يَزْدَجِرُ عَمَّا عُوقِبَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَأَمَّا فِي الْحَاجِيَّاتِ; فَكَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مَشْرُوعٌ لِلتَّخْفِيفِ وَلِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَلِكُ الْمُتَرَفِّهُ لَا مَشَقَّةَ لَهُ، وَالْقَصْرُ فِي حَقِّهِ مَشْرُوعٌ، وَالْقَرْضُ أُجِيزَ لِلرِّفْقِ بِالْمُحْتَاجِ، مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا فِي التَّحْسِينِيَّاتِ; فَإِنَّ الطَّهَارَةَ شُرِعَتْ لِلنَّظَافَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا عَلَى خِلَافِ النَّظَافَةِ كَالتَّيَمُّمِ. فَكُلُّ هَذَا غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ; لِأَنَّ الْأَمْرَ الْكُلِّيَّ إِذَا ثَبَتَ كُلِّيًّا; فَتَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ كُلِّيًّا، وَأَيْضًا; فَإِنَّ الْغَالِبَ الْأَكْثَرِيَّ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرِيعَةِ اعْتِبَارَ الْعَامِّ الْقَطْعِيِّ; لِأَنَّ الْمُتَخَلِّفَاتِ الْجُزْئِيَّةَ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهَا كُلِّيٌّ يُعَارِضُ هَذَا الْكُلِّيَّ الثَّابِتَ، هَذَا شَأْنُ الْكُلِّيَّاتِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّاتِ الْعَرَبِيَّةِ; فَإِنَّهَا أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ أَمْرًا وَضْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ قَادِحًا فِي الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا نَقُولُ: مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ عَقْلًا، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّخَلُّفُ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ تَخَلَّفَ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ بِالْقَضِيَّةِ الْقَائِلَة: مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ. فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكُلِّيَّةُ فِي الِاسْتِقْرَائِيَّاتِ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ مُقْتَضَاهَا بَعْضُ الْجُزْئِيَّاتِ. وَأَيْضًا; فَالْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَخَلِّفَةُ قَدْ يَكُونُ تَخَلُّفُهَا لِحِكَمٍ خَارِجَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ; فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً تَحْتَهُ أَصْلًا، أَوْ تَكُونُ دَاخِلَةً لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا دُخُولُهَا، أَوْ دَاخِلَةً عِنْدَنَا لَكِنْ عَارَضَهَا عَلَى الْخُصُوصِ مَا هِيَ بِهِ أَوْلَى; فَالْمَلِكُ الْمُتَرَفِّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَشَقَّةَ تَلْحَقُهُ، لَكُنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا، أَوْ نَقُولُ فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَمْ يَزْدَجِرْ صَاحِبُهَا: إِنِ الْمَصْلَحَةَ لَيْسَتِ الِازْدِجَارَ فَقَطْ، بَلْ ثَمَّ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ كَوْنُهَا كَفَّارَةً، لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَجْرًا أَيْضًا عَنْ إِيقَاعِ الْمَفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَادِمٌ لِلْكُلِّيِّ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا اعْتِبَارَ بِمُعَارَضَةِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي صِحَّةِ وَضْعِ الْكُلِّيَّاتِ لِلْمَصَالِحِ.
مَقَاصِدُ الشَّارِعِ فِي بَثِّ الْمَصَالِحِ فِي التَّشْرِيعِ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَامَّةً، لَا تَخْتَصُّ بِبَابٍ دُونَ بَابٍ، وَلَا بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، وَلَا بِمَحَلِّ وِفَاقٍ دُونَ مَحَلِّ خِلَافٍ، وَبِالْجُمْلَةِ الْأَمْرُ فِي الْمَصَالِحِ مُطَّرِدٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلَوِ اخْتَصَّتْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِلْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ الْبُرْهَانَ قَامَ عَلَى ذَلِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ فِيهَا غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- وَهُوَ الْقَرَافِيُّ-: أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَقْلِيَّةَ أَنَّ الرَّاجِحَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّيْءَ وَالنَّقِيضَ، بَلْ مَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا كَانَ الْآخَرُ مَرْجُوحًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا، وَهُوَ الْمُفْتِي بِالرَّاجِحِ، وَغَيْرُهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا; لِأَنَّهُ مُفْتٍ بِالْمَرْجُوحِ، فَتَتَنَاقَضُ قَاعِدَةُ الْمُصَوِّبِينَ مَعَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَّ الشَّرَائِعَ تَابِعَةٌ لِلْمَصَالِحِ. هَذَا مَا قَالَ. وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، أَمَّا فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ; فَلَمْ يَكُنِ الصَّادِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ لِلرَّاجِحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِيمَا فِي الظُّنُونِ فَقَطْ; كَانَ رَاجِحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ مَرْجُوحًا، وَسُلِّمَ أَنَّ قَاعِدَةَ التَّصْوِيبِ تَأْبَى قَاعِدَةَ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ لِتُعِينَ الرَّاجِحَ، وَكَانَ يَقُولُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَائِلِ بِالتَّصْوِيبِ أَنْ يَصْرِفَ الْخَطَأَ فِي حَدِيثِ الْحَاكِمِ إِلَى الْأَسْبَابِ; لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ يَقَعُ فِيهَا، وَحَمْلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى، هَذَا مَا نُقِلَ عَنْهُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ جَارِيَةٌ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ عَلَى مَذْهَبِ التَّصْوِيبِ إِضَافِيَّةٌ; إِذْ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ تَابِعٌ لِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، وَالْمَصَالِحُ تَابِعَةٌ لِلْحُكْمِ أَوْ مَتْبُوعَةٌ لَهُ فَتَكُونُ الْمَصَالِحُ أَوِ الْمَفَاسِدُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَفِي ظَنِّهِ، وَلَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ الْمُخَطِّئَةِ وَالْمُصَوِّبَةِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ جَائِزٌ، فَجِهَةُ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَهُ هِيَ الرَّاجِحَةُ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي ظَنِّهِ; لِأَنَّهَا عِنْدَهُ خَارِجَةٌ عَنْ حُكْمِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، فَالْمُقْدِمُ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيهَا مُقْدِمٌ عَلَى مَا هُو جَائِزٌ، وَمَا هُوَ جَائِزٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ، لَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِهَا أُجِيزَ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرِّبَا فِيهَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَهِيَ عِنْدُهُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، وُجْهَةُ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْمَرْجُوحَةُ لَا الرَّاجِحَةُ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا ظَنَّهُ فَلَا ضَرَرَ لَاحِقٌ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَحُكْمُ الْمُصَوِّبُ هَاهُنَا حُكْمُ الْمُخَطِّئِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّنَاقُضُ وَاقِعًا إِذَا عُدَّ الرَّاجِحُ مَرْجُوحًا مِنْ نَاظِرٍ وَاحِدٍ؛ بَلْ هُوَ مِنْ نَاظِرَيْنِ ظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعِلَّةَ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْحُكْمَ مَوْجُودَةً فِي الْمَحَلِّ بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ، وَفِي ظَنِّهِ لَا مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ; إِذْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، فَهَاهُنَا اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا بَعْدُ، فَالْمُخَطِّئَةُ حَكَمَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هُوَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ، وَالْمُصَوِّبَةُ حَكَمَتْ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ مَا ظَهَرَ الْآنَ، وَكِلَاهُمَا بِأَنَّ حُكْمَهُ عَلَى عِلَّةٍ مَظْنُونٍ بِهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَيَتَّفِقُ هَاهُنَا مَنْ يَقُولُ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ لُزُومًا أَوْ تُفَضُّلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ، أَوْ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ، وَهَذَا مَجَالٌ يَحْتَمِلُ بَسْطًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مِنْ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الِاعْتِذَارِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَارْتَفَعَ إِشْكَالُ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَتَأَمَّلْ; فَإِنَّ الْجُوَيْنِيَّ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ اجْتِهَادًا وَحُكْمًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ اجْتِمَاعِ قَاعِدَةِ التَّصْوِيبِ عِنْدَهُمْ مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الذَّوَاتِ; فَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ مُشْكِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ مَعْصُومَةٌ كَمَا أَنَّ صَاحِبَهَا مَعْصُومٌ، وَكَمَا كَانَتْ أُمَّتُهُ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَعْصُومَةً. وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِوَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْر: 9]. وَقَوْلِه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هُودٍ: 1]. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الْحَجّ: 52]؛ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْفَظُ آيَاتِهِ وَيُحْكِمُهَا حَتَّى لَا يُخَالِطَهَا غَيْرُهَا وَلَا يُدَاخِلَهَا التَّغْيِيرُ وَلَا التَّبْدِيلُ، وَالسُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ، فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَدَائِرَةٌ حَوْلَهُ، فَهِيَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ فِي مَعَانِيهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [الْمَائِدَة: 3]. حَكَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ لَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ; قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْلِ التَّوْرَاة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [الْمَائِدَة: 44] فَوَكَلَ الْحِفْظَ إِلَيْهِمْ; فَجَازَ التَّبْدِيلُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي الْقُرْآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْر: 9]؛ فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَيْهِمْ، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيِّ، فَذَكَرْتُ لَهُ الْحِكَايَةَ، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. وَأَيْضًا مَا جَاءَ مِنْ حَوَادِثِ الشُّهُبِ أَمَامَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لَمَّا كَانُوا يَزِيدُونَ فِيمَا سَمِعُوا مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، حَيْثُ كَانُوا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِذَا كَانُوا قَدْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ فِي السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ اللُّسُنُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ دَائِمٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَدُلُّكَ عَلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ وَعِصْمَتِهَا عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ. وَالثَّانِي: الِاعْتِبَارُ الْوُجُودِيُّ الْوَاقِعُ مِنْ زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْآنَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَفَرَّ دَوَاعِيَ الْأُمَّةِ لِلذَّبِّ عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْهَا، بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ. أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ حَفَظَةً; بِحَيْثُ لَوْ زِيدَ فِيهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ، لَأَخْرَجَهُ آلَافٌ مِنَ الْأَطْفَالِ الْأَصَاغِرِ، فَضْلًا عَنِ الْقُرَّاءِ الْأَكَابِرِ. وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ لِكُلِّ عِلْمٍ رِجَالًا حَفِظَهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ. فَكَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ يَذْهَبُونَ الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ فِي حِفْظِ اللُّغَاتِ وَالتَّسْمِيَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، حَتَّى قَرَّرُوا لُغَاتِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ- وَهُوَ الْبَابُ الْأَوَّلُ مِنْ أَبْوَابِ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ أَوْحَاهَا اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ-. ثُمَّ قَيَّضَ رِجَالًا يَبْحَثُونَ عَنْ تَصَارِيفِ هَذِهِ اللُّغَاتِ فِي النُّطْقِ فِيهَا رَفْعًا وَنَصْبًا، وَجَرًّا وَجَزْمًا، وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَإِبْدَالًا وَقَلْبًا، وَإِتْبَاعًا وَقَطْعًا، وَإِفْرَادًا وَجَمْعًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ تَصَارِيفِهَا فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ، وَاسْتَنْبَطُوا لِذَلِكَ قَوَاعِدَ ضَبَطُوا بِهَا قَوَانِينَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَسَهَّلَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْفَهْمَ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ، وَعَنْ رَسُولِهِ فِي خِطَابِهِ. ثُمَّ قَيَّضَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ رِجَالًا يَبْحَثُونَ عَنِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ مِنَ النَّقَلَةِ، حَتَّى مَيَّزُوا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، وَتَعَرَّفُوا التَّوَارِيخَ، وَصِحَّةَ الدَّعَاوَى فِي الْأَخْذِ لِفُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ حَتَّى اسْتَقَرَّ الثَّابِتُ الْمَعْمُولُ بِهِ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ الْعَظِيمُ لِبَيَانِ السُّنَّةِ عَنِ الْبِدْعَةِ نَاسًا مِنْ عَبِيدِهِ بَحَثُوا عَنْ أَغْرَاضِ الشَّرِيعَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَعَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَرَدُّوا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، حَتَّى تَمَيَّزَ أَتْبَاعُ الْحَقِّ عَنْ أَتْبَاعِ الْهَوَى. وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ قُرَّاءً أَخَذُوا كِتَابَهُ تَلَقِّيًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَّمُوهُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ حِرْصًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ فِي تَأْلِيفِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، حَتَّى يَتَوَافَقَ الْجَمِيعُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ قَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى نَاسًا يُنَاضِلُونَ عَنْ دِينِهِ، وَيَدْفَعُونَ الشُّبَهَ بِبَرَاهِينِهِ، فَنَظَرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتَعْمَلُوا الْأَفْكَارَ، وَأَذْهَبُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاتَّخَذُوا الْخَلْوَةَ أَنِيسًا، وَفَازُوا بِرَبِّهِمْ جَلِيسًا، حَتَّى نَظَرُوا إِلَى عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلْقِهِ وَالْوَاقِفُونَ مَعَ أَدَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ عَارَضَ دِينَ الْإِسْلَامِ مُعَارِضٌ، أَوْ جَادَلَ فِيهِ خَصْمٌ مُنَاقِضٌ، غَبَّرُوا فِي وَجْهِ شُبُهَاتِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، فَهُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ وَحُمَاةُ الدِّينِ. وَبَعَثَ اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ سَادَةً فَهِمُوا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ، فَاسْتَنْبَطُوا أَحْكَامًا فَهِمُوا مَعَانِيَهَا مِنْ أَغْرَاضِ الشَّرِيعَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، تَارَةً مِنْ نَفْسِ الْقَوْلِ، وَتَارَةً مِنْ مَعْنَاهُ، وَتَارَةً مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، حَتَّى نَزَّلُوا الْوَقَائِعَ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَسَهَّلُوا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ طَرِيقَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ فِي كُلِّ عِلْمٍ تَوَقَّفَ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ أَوِ احْتِيجَ فِي إِيضَاحِهَا إِلَيْهِ. وَهُوَ عَيْنُ الْحِفْظِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْأَدِلَّةُ الْمَنْقُولَةُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
كَمَا أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي الضَّرُورِيَّاتِ أَوَالْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ فَلَا تَرْفَعُهَا آحَادُ الْجُزْئِيَّاتِ كَذَلِكَ نَقُولُ: إِذَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي آحَادِهَا; فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ الْكُلِّيُّ، وَذَلِكَ الْجُزْئِيَّاتُ، فَالْجُزْئِيَّاتُ مَقْصُودَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي إِقَامَةِ الْكُلِّيِّ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ الْكُلِّيُّ فَتَتَخَلَّفَ مَصْلَحَتُهُ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّشْرِيعِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ: مِنْهَا: وُرُودُ الْعَتَبِ عَلَى التَّارِكِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، كَتَرْكِ الصَّلَاةِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ، أَوِ الْجُمْعَةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْجِهَادِ، أَوْ مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ أَمْرٍ مَطْلُوبٍ أَوْ مَهْرُوبٍ عَنْهُ، كَانَ الْعَتَبُ وَعِيدًا أَوْ غَيْرَهُ، كَالْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَالتَّجْرِيحِ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَامَّةَ التَّكَالِيفِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهَا دَائِرَةٌ عَلَى الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِيهَا قَدْ جَاءَ حَتْمًا، وَتَوَجَّهَ الْوَعِيدُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْهَا، أَوْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ وَلَا مُحَاشَاةٍ; إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُسْقِطُ أَحْكَامَ الْوُجُوبِ أَوِ التَّحْرِيمِ، وَحِينَ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ دَاخِلَةٌ مَدْخَلَ الْكُلِّيَّاتِ فِي الطَّلَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً مَقْصُودَةً فِي إِقَامَةِ الْكُلِّيِّ; لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِالْكُلِّيِّ مِنْ أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ لَا يَصِحُّ الْقَصْدُ فِي التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُ رَاجِعٌ لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ لَا يَحْصُلُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَتَوَجُّهُ الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَوَجُّهٌ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مَمْنُوعُ الْوُقُوعِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ الْجُزْئِيَّاتِ; فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكُلِّيِّ هُنَا أَنْ تَجْرِيَ أُمُورُ الْخَلْقِ عَلَى تَرْتِيبٍ وَنِظَامٍ وَاحِدٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَافَ، وَإِهْمَالُ الْقَصْدِ فِي الْجُزَيَّئَاتِ يَرْجِعُ إِلَى إِهْمَالِ الْقَصْدِ فِي الْكُلِّيِّ; فَإِنَّهُ مَعَ الْإِهْمَالِ لَا يَجْرِي كُلِّيًّا بِالْقَصْدِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مَقْصُودًا، هَذَا خُلْفٌ; فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى حُصُولِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، فَانْحَتَمَ الْقَصْدُ إِلَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُعَارِضُ الْقَاعِدَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهَا لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَارِضِ الْمُعَارِضِ، فَلَا شَكَّ فِي انْحِتَامِ الْقَصْدِ إِلَى الْجُزْئِيِّ، وَمَا تَقَدَّمَ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْعَارِضِ عَلَى الْكُلِّيِّ، حَتَّى إِنَّ تَخَلُّفَ الْجُزْئِيِّ هُنَالِكَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيِّهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مَشْرُوعٌ- وَهَذَا كُلِّيٌّ مَقْطُوعٌ بِقَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرَعَ الْقِصَاصَ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ، فَقَتْلُ النَّفْسِ فِي الْقِصَاصِ مُحَافَظَةٌ عَلَيْهَا بِالْقَصْدِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخَلُّفُ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ الْمُحَافَظِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِتْلَافُ هَذِهِ النَّفْسِ لِعَارِضٍ عَرَضَ وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ; فَإِهْمَالُ هَذَا الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيِّهِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى جُزْئِيٍّ فِي كَلَيِّهِ أَيْضًا، وَهُوَ النَّفْسُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا; فَصَارَ عَيْنُ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيٍّ هُوَ عَيْنُ إِهْمَالِ الْجُزْئِيِّ، لَكِنْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّيِّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَرِدُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. فَعَلَى هَذَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عَارِضٍ; فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ لِعَارِضٍ، فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى كُلِّيٍّ آخَرَ; فَالْأَوَّلُ يَكُونُ قَادِحًا تَخَلُّفُهُ فِي الْكُلِّيِّ، وَالثَّانِي لَا يَكُونُ تَخَلُّفُهُ قَادِحًا.
|